شيدوا مدناً إسلامية عمرها 10 قرون.. من هم بنو ميزاب أمازيغ الجزائر الذين أبهروا مالك بن نبي؟
عندما زار فيلسوف الحضارة، مالك بن نبي، مدينة غرداية، الواقعة على بعد 600 كلم جنوبي الجزائر، سرعان ما أدرك ذلك الفيلسوف أن الحضارة التي لطالما فتّش عنها في الكتب قد سبقته على ضفاف وادي ميزاب، منذ أكثر من ألف عام.
طرح الرجل في كتابه الشهير "شروط النهضة" ثلاثة مبادئ أساسية لقيام أية نهضة، هي: الإنسان، والتراب، والزمن، لكن تلك الخلطة لن تسفر عن شيء إذا لم تتحفز بـ"المعامل المكثف"، متمثلاً في الفكرة الدينية، أو الأخلاقية.
فوجئ بن نبي بأن ما سخّر له عقله الرياضي لسنوات طويلة قائم بين عينيه، بدقة الهندسة المعمارية وألوانها المتناسقة، وبوحدة الزي المجتمعي، عبر الطاقية والقندورة البيضاء، والشروال بالنسبة للرجال، وباللحاف الأبيض "الحولي" بالنسبة للنساء المتزوجات، المسمى "بو عوينة"، والأهم من ذلك تلك المنتجات الحرفية من زرابي بلغ بعضها العالمية مثل زربية بني يزجن، والتحف اليدوية والصناعات الجلدية، والمؤسسات التجارية والاقتصادية، التي جعلت المجتمع الميزابي شبيهاً بمجتمع النمل العامل المنتج. هنا لا يعرف الناس مصطلح البطالة ولا العطالة، فكل مخلوق مرزوق، والبركة في الحركة، ولذا فقد أطلق جملته الشهيرة: "بلا جدال، تملك هذه المنطقة إمكانية الإقلاع الحضاري".
أما أساطير الهندسة المعمارية الحديثة، مثل فرناند بويلون، وأندري رافيرو، وحسن فتحي، فسيتقاطرون على تلك المدن العريقة لدراسة معمارها المتوحد في الطبيعة، وتحليل عبقريتهم الفريدة في استخدام مكونات بسيطة، شيدت بها حواضر مزدهرة بهندسة ذات وظيفة اجتماعية، قاومت الصحراء وشح المياه والزمن لقرون، ولا تزال، حتى إن رائد المعمار الحديث شارل إدوار لوكوربيزييه، وشّحها وسامَ الاعتراف بمقولة رائدة "عندما أتوق إلى فكرة ملهمة فكل ما عليّ فعله هو أن أقتني تذكرة طائرة لأسافر إلى وادي ميزاب".
1/ نظام العَزّابَة: هيكل روحي لتنظيم الحياة الاجتماعية
في الطريق الصحراوي المؤدي إلى تلك المنطقة الواقعة وسط البلاد، على بعد 600 كلم جنوبي الجزائر العاصمة، ستصدمك تلك النظرة البانورامية الهائلة، ففوق هضبة صخرية حمراء تبرز مآذن مساجد أرجوانية تعتلي أعلى نقطة في التركيب الهندسي، ثم بيوت متراصة تحيط بها بشكل حلزوني، مشكّلة كشبكة عنكبوتية دائرية تحتوي مربعات سكنية متشابهة تنزل باتساق من الأعلى نحو الأسفل، حيث الأسواق العامرة بمحلات القماش والزرابي والمنسوجات مزركشة الألوان، والعقاقير والمشغولات اليدوية ذات الرموز التراثية.
وإلى الأسفل واحات النخيل، وبساتين البرتقال، والطماطم، والليمون، والفلفل، والتفاح، والجزر، فتكتشف للوهلة الأولى ثلاثة عوالم متراصة، المدينة حيث العائلة والسكن في سلام، والسوق حيث التجارة والضجيج، والواحات حيث المعاش والاقتصاد الفلاحي، لكن المساجد السامقة والمهيمنة روحياً وعمرانياً على حياة الميزابيين الذين يتبعون المذهب الإباضي هي حجر أساس هذا النظام البديع، والنسق المترابط، مثل الأعضاء في الجسد الواحد.
في جولتنا إلى قصر غرداية، والقصر هنا بمعنى المدينة، يشرح لي الأستاذ مصطفى بوغلوسة من مجلس مؤسسة التراث تلك الفكرة قائلاً "أسَّس الإباضيون منذ أكثر من ألف عام نظاماً اجتماعياً يلعب فيه الدين والمسجد دوراً محورياً، هو "نظام العَزّابة"، وهي كلمة مشتقة من كلمة أمازيغية، تعني التفرغ للخدمة التطوعية، فكل مدينة تضم مجلساً يمكن اعتباره بمثابة مجلس شيوخ يتكون من 12 شخصاً، يمثلون إمام المسجد ومعاونيه من مختلف التخصصات، ويشترط فيهم العلم والعمل والزواج والصدق والأمانة.
هم من يسيّرون شؤون المجتمع، طبقاً للشريعة الإسلامية، وتنبثق عن المجلس هياكل وجمعيات منظمة، تُعنى بتنظيم شؤون المدينة في مجال العمران، والمياه، والتعليم، وإصلاح ذات البين، ومختلف شؤون الضبط الاجتماعي".
2/ 60 بنداً عرفياً لتسيير الحياة المشتركة في المدينة الفاضلة
لفت نظري خلال الحديث أن هذا المرشد، الذي كان معلماً، طلب منا إفساح الطريق لمرور أطفال قائلاً "من آداب الناس هنا إفساح الطريق للنساء والشيوخ والأطفال، كل الأطفال يلتحقون بعد انتهاء دوام المدرسة الرسمية بمدارس خاصة لتلقّي علوم الدين واللغة والفقه والحساب"، لا تتعجب إذن من كون هؤلاء الميزابيين الأمازيغ المتمسكين بهويتهم، هم أيضاً أكثر الناس معرفةً باللغة العربية، حسبك أن الشاعر مفدي زكريا، الذي حاكى إلياذة هوميروس بإلياذة الجزائر عبر أكثر من 1200 بيت شعري، يجول بك في تاريخ الجزائر المطنب في التاريخ، هو أيضاً مؤلف النشيد الوطني الجزائري، وينحدر من مدينة بني يزجن المجاورة.
ونحن نتجول عبر تلك الزنقات والدروب، التي تشتمّ منها روائح البهارات وتمتص العيون الألوان، سألت مصطفى عن سر عدم تقابل بوابات الناس، وحجب النوافذ بمشربيات، فأجابني "هناك 60 بنداً من بنود العيش المشترك يجب أن يحترمها السكان هنا، لا تتواجه الأبواب، وتحجب النوافذ احتراماً لخصوصية الجيران، كما يمنع التطاول، ولا ترتفع البيوت المسكونة عن 7.5 متر، في البنيان كي لا يحرم الجميع من حصتهم من نور الشمس والهواء، لذا فكل المدن أو القصور الخمسة المعروفة لدى المعماريين الغربيين بمسمى "البنتابول"، وهي غرداية والعطف وبونورة ومليكة وبني يزجن، بالإضافة لمدينتي بريان والقرارة، متشابهة، وهي تعكس عمرانياً قيمة التكافل الاجتماعي والعدالة بين الجميع، وهي ذات واجهات موحدة، لا تستطيع التفريق فيها بين الأغنياء والفقراء، ويشمل التساوي القبور ذات النمط الواحد للجميع. كل ذلك يخضع لمراقبة أمناء العرش، وهم فرع من "العزابة"، يُعنى بشؤون العمران والواحة".
يشتهر الميزابيون بالتجارة في الكتان والخردوات والمنسوجات عبر كافة ربوع الجزائر، التي يملكون بها محلات ومتاجر، لا بسبب الإتقان والمهارة، بل بسبب الصدق والأمانة وحسن الاقتصاد؛ لذا فإن مدنهم مزدهرة، عامرة بالمنتجات والسياح المحليين والأجانب، وهي الأكثر ترحاباً وأمناً وأماناً؛ إذ يخضع الزوّار لمرافقة مرشدين سياحيين مع التقيد بممنوعات، مثل عدم التجول بألبسة منافية للأدب والذوق العام، كما يمنع تصوير النساء والشيوخ والتدخين، وحتماً سيراودك هذا السؤال المحير، في كيفية تمكن بقايا الدولة الرستمية- 707-909م/ 160-296هـ- الفارين من جيش الفاطميين، الذي دُمّر على يد أبي عبد الله الشيعي، عاصمة دولتهم الأولى، وكانت أول دولة مستقلة بالمغرب الكبير، وتقع بمدينة تاهرت- تيارت حالياً- في تشييد حضارة لا تزال قائمة مستمرة، بعدما أنبتوها بسواعدهم، مثل حدائق عامرة بالغلال، في قلب هضبات صخرية، وفي بطن جحيم صحراوي جافٍّ وقاسٍ، يعاني شُح السماء وقلة الماء.
3/ قصة الماء: بنية تحتية مبتكرة وشبكات تقنية منذ قرون
حفر الميزابيون أكثر من 4000 بئر، لتوفير المياه على مدار العام، فأسسوا منذ عشرة قرون شبكة هندسية دقيقة لتجميع مياه الأمطار المتساقطة في وديان المزاب والأبيض والعذيرة وأمزول وتارزوز، عبر حواجز ومماسك مائية مبنية بالحجارة والطين والجير، استغرق أحدها على سبيل المثال أربعين عاماً، وهي مزودة بقنوات وأنفاق تجرّها لمناطق تخزين، وبنظام توزيع، عبر كوات عادلة بين الجميع، يُقسم الماء هنا بمقدار فتحة تحسب بحبة تمرة عن كل نخلة. يبدو اشتغال بني ميزاب على الزمن دارجاً هنا منذ القرن العاشر الميلادي، فعندما وقفت مع مرافقي أمام بئر المسجد الإباضي العتيق، المشيد في 1053 ميلادية، فاجأني مصطفى بأن هذه البئر شُيدت منذ سبعة قرون، ولا تزال سارية إلى اليوم، مثلها مثل ثلاثين بئراً أخرى بقصر غرداية وحده، والمثير هنا أن هذه الآبار كان الآباء قد شرعوا في حفرها منذ سنوات دون نتيجة، لكن الأبناء والأحفاد سيواصلون تلك المهمة حتى بلوغ الماء، يخبرني مصطفى بأن بئراً استغرقت ثمانين عاماً، ويبقى الدافع كما يضيف "التطوع الخيري والإيمان الراسخ بالصدقة الجارية، التي يستمر نفعها للناس أجمعين، زرعوا فأكلنا، ونزرع فيأكلون".
عندما مرّ علينا عدد من بني ميزاب كان يفهمني بأن هؤلاء من هيئة اليقظة الذين يضمنون المناوبة، للإبلاغ عن المرضى والنساء الحوامل، والتكفل بالحالات المستعجلة، وهم يفعلون ذلك ابتغاءً للخير والمنفعة العامة، كما لو أننا امام نموذج سابق الحداثة منذ ألف عام، أو قل أمام نموذج للتنمية المستدامة بأثر رجعي، حيث يتعدى تفكير المواطن نفسه، في حق انتفاع الأجيال القادمة من الخيرات المكتسبة أو المدخرة.
4/ لوكوربيزييه يستوحي هندسة كنيسة فرنسية من مسجد العطف
تبدو حارات المدن السبع متاحف حية بالحياة، كما لو أنك مسافر عبر الزمن في حكايات ألف ليلة وليلة، ولا غرو، فالمنازل متوحدة في الشكل واللون، وتخضع لمنطق هندسة النسق العمراني، ذلك بالتحديد ما دفع المهندس السويسري الفرنسي الشهير لوكوربيزييه، رائد المعمار الحديث، لإجراء دراسات هندسية حول تلك العمائر، بين أعوام 1931 و1933.المهندس السويسري الفرنسي الشهير لوكوربيزييه
لقد شعر بالذهول والصدمة عندما التقى بهذه الحضارة البصرية في أعماق الصحراء، وظَلّ يحلق بالطائرة مستكشفاً إياها من الأعالي، ليستنتج: "يعتقد البعض أن هذه المدن مجرد قشور من طين مطروق أحرقته الشمس، غير أنها تتبدى من الطائرة معجزة في الحكمة، وفي الترتيب العالم الخيّر، والتشريح اللامع. أما من الداخل فتتفتح مثل صدفات حية على حدائق بهيجة ذات خضار"، لذا لن يتأخر، بين أعوام 1950 و1955 في إنجاز كنيسة نوتردام دو رونشامب بفرنسا، مستوحياً طريقة التصميم من مسجد وضريح سيدي إبراهيم بقصر العطف، الراجع للعام 1012 ميلادياً. ولن يختلف عنه أندري روفيرو، الذي ألّف كتاب "المزاب: درس في الهندسة المعمارية"، فأقام بها ورش الصحراء بداعي أن "هندسة هذه المدن باهرة دون الرغبة في الإبهار، متوحدة في البيئة ومع الطبيعة".
في العام 2007، أطلق الدكتور نوح أحمد مشروعاً ثورياً، تمثّل في إحياء مدينة مندثرة ببناء مدينة تافيلالت الجديدة، قرب مدينة بني يزجن، بالاعتماد الكلي على مواد محلية مثل الحجارة والطين، على ذات النمط العمراني المتوارث من عمارة المدن السبع القديمة، مع تحسينات عصرية تعلقت باستخدام الطاقة الشمسية للإنارة، باسترجاع المياه المستعملة لري حديقة أنجزت في تخوم المشروع الذي يضم 1050 وحدة سكنية موحدة الطراز والمقاسات، مع نظام جمع القمامة بطريقة الفرز الحديثة، عبر حاويات متخصصة للبلاستيك والزجاج والنفايات العادية.
في الجولة إلى هناك، أوضح لي المرشد مصطفى دادا، أن المشروع الذي استغرق عقداً كاملاً، جاء كفكرة للحفاظ على واحة بني يزقن القديمة من الغزو العمراني، وهو كما يتضح أقيم فوق هضبة صخرية بمساحة 22 هكتاراً، باحترام القياسات وتقنيات البناء بالطين المطروق والجير والجبس، العازلة للضجيج والحرارة، كما خضعت عملية التلبيس الخارجي للجُدر باستعمال عراجين التمر المغروسة في تلك المواد، لتخلف نتوءات بارزة تُسهم في طرح المياه بعيداً عنها لتلافي الرطوبة.
أما الدكتور أحمد نوح فقد كشف لي أن قصر تافيلالت الجديد يستجيب لأفكار التنمية المستدامة، التي طبقها أسلافه منذ ما يربو عن الألف عام، وهي أكبر جائزة معنوية تخص الحفاظ على تراث الأجداد، وبعثه نحو المستقبل، وتفوق من حيث الأهمية العديد من الجوائز المحلية والعربية والعالمية، التي فاز بها المشروع، وآخرها جائزة "إنيرجي غلوب" العالمية 2020 المرموقة.
***
تبدو الحياة في مدن بني ميزاب أزلية، كما لو أنها تنتج ذاتها يومياً، عبر العمل والكد والعطاء والنظام، لتخلد نفسها بنفسها، عبر التكريس الأبدي لقيم الدين والجماعة، ما أنتج في النهاية نسقاً حضارياً، عابراً للزمن، مقاوماً لعوامل الفناء والاندثار.
يمارس الناس فلسفةً بسيطةً هي: "اعمل لدنياك كما لو أنك تعيش أبداً، واعمل لأخراك كما لو أنك تموت غداً"، هكذا فالتكافل الاجتماعي شبيه بالنمط العمراني المتراصّ، وطبيعي أن يكتسب الفرد ما يُسمى "الضمير الأعمق"، الذي لا يفكر في ذاته، بل في الآخرين، هذا ما منح الإنسان الميزابي استمراريةً بارزةً عبرَ التراب والزمن، وخلود الجماعة في التاريخ والجغرافيا، وهو ما تحقق على يد اليونسكو، التي صنَّفت مدن بني ميزاب تراثاً إنسانياً منذ العام 1982.
هم يشبهون إلى حد ما منتج "التجاوت"، وهي قربة مصنوعة من جلد الماعز لا يخلو جهاز عروس منها، فتحملها إلى بيت زوجها مرصعة بنسيج شبكي تحيكه من تيجان القرنقل.
في أيام الصيف الحارة تُملأ تلك القربة لتصبح مبرداً طبيعياً يروي العطش بالماء الزلال المعطر، بيد أن لها وظيفة اجتماعية أخرى، فغيابها من مِعْلقها في سطح المنزل يعني أن الزوج غائب، فيهبّ الجيران بإرسال أطفالهم للزوجة الوحيدة، بغرض الاطمئنان عليها وخدمتها، وقضاء حوائجها حتى عودة سيد بيتها.
مقالات من مواقع أجنبية