اكتشافُ عُضيّة جديدة في جسم الخليّة

0 واد هبرة - نسرين



يظهر أن اللّغة العربية سايرت علم الأحياء “البيولوجيا” وسارت حذوه وعلى مثاله. وكما ينبئنا هذا الأخير، بين الحين والحين، عن سر عجيب من أسرار الخلايا الحية من حيث مكوّناتها، فإن اللغة العربية التزمت بسر آخر وهو أن استعمال لفظة: “عُضيّة” (وجمعها: عضيّات) يكاد يكون وقفا عن أجزاء الخلية الدقيقة. ولا نكاد نجد لها استعمالات مماثلة خارج هذا النطاق في المتداول المعروف. أما في المجالات الأكاديمية الصّارمة، فتستعمل لفظة: “كِنْسِج” التي تجمع على: كَناسج؟؟.

مرّ على اكتشاف الخلية ثلاثة قرون وستون سنة. ولم تكن الملاحظات الأولى التي مارسها العالم المشهود له بالموسوعية المرموقة الأنجليزي روبرت هوك (1635 ـ 1703م) في سنة 1665م بواسطة مُجهر مزوّد بعدسات تكبير بدائية تظهر سوى فراغات أشبه بالمسام تحيط بها جدر وقعت عليها عيناه في قطعة فلين متورّمة. وكانت الصورة التي لاحظها شبيهة بخلايا النحل في شكلها وتجاورها. وفي عام 1674م، حقّق أنطوني فان ليفينهوك أول من مشاهدة للخلايا الحية تحت المجهر. وقدّم وصفا لخلايا الطحلب وكائنات حية دقيقة أخرى.

جلب صوغ “النظرية الخلوية” في سنة 1838م، والتي ينصّ منطوقها على: (أن جميع الكائنات الحيّة، ومهما كان موقعها في سلّم التّصنيف، تتكوّن من خلايا. وأن الخلية هي الوحدة الأساسية للحياة)، جلب اهتمام علماء علم الأحياء الذين صوّبوا أعمالهم للتعرّف أكثر على أسرار تركيب الخلايا الحية. وكانت أول عضيّة اكتشف فيها هي: النّواة. فلقد سهّلت كثافة مادتها المؤلفة لها من رؤيتها بسهولة نسبية، وأعان على ذلك تطوير أجهزة الملاحظة، وجاء هذا الاكتشاف المعتبر في سنة 1831م. وتبعها اكتشاف أجسام الطاقة (الميتاكوندريا) (1890م) ثم الشبكة السيتوبلازمية الداخلية (1897م)، فجهاز غولجي المكتشف من طرف العالم الإيطالي كاميلو غولجي في سنة 1898م. وتكريما له وتنويها بأعماله التي أنجزها في ميدان الطب، حملت القرية التي ولد فيها اسمه. ومع مرور الوقت، أصبحت الدراسات التي تتناول الخلية علما مستقلا متفرعا عن علم الأحياء، هو: “علم الخلية”.

ظلت أبحاث علماء علم الأحياء تتقارب وتتقاطع مع موضوع الخلية لخصوبته من حيث المعلومات التي يدّرها، وخاصة بعد الوقوف على علم الوراثة ووضع أولى قوانينه المتحكمة في انتقال الصفات بين الأجيال، وما يتطلّبه هذا الأخير في شقه الحديث من تفسيرات تعين على فهم وتفسير الوظائف التركيبية داخل الخلايا وتقدّم شروحا لأسباب متعلّقة بالموّرثات وما تحدثه من إصابات مرضية مهدّدة لحياة الإنسان.

تعد العضيات الخلوية بنيات دقيقة متخصصة تسبح في الهيولى، وتفصلها عنها أغشية. وتنفرد كل عضيّة بوظيفة خاصة، ولكنها تتعاون وتتكامل فيما بينها للمحافظة على صيرورة حياة الخلية. ويمكن أن نؤلف لها صُوّرا تماثلية بأعضاء جسم الكائن الحي. ومن أجل ضمان حياة سليمة للخلية، تشتغل العضيات في نظام دقيق، وتعمل على إنتاج الطاقة وصناعة البروتين والتخلص من الفضلات وتخزين المواد والمساهمة في كل النشاطات الأساسية التي تضمن حياة الخلية.

توهّم علماء الخلية أنهم وضعوا نقطة النهاية للمرّة الأخيرة، وأغلقوا باب الاكتشافات المتعلقة بالعناصر المشكّلة لأجسام الخلايا الحية منذ عقود. وأن كل محاولة في هذه الطريق هي هدر للوقت ومضيعة للجهد. ولكن جاءت المفاجأة غير المنتظرة في نهاية شهر ماي الماضي (2025م) لما لاحت لهم تحت المجاهر صورة عضيّة غريبة لم تسبق رؤيتها في الخلايا البشرية.

ففي إنجاز علمي غير مسبوق، أعلن باحثون في جامعة “فرجينيا” بالولايات المتحدة الأمريكية وبمساعدة وتعاون من المعهد الوطني للصّحة عن اكتشاف عضيّة أطلقوا عليها اسم: الهيميفوزوم L’ hémifusome. وتحقّق هذا الاكتشاف الذي سخرت فيه خلايا ظهارية “مخاطية” بشرية بالاستنجاد بتقنيات التجميد الإلكتروني المرفق بالتصوير ثلاثي الأبعاد. وترجمت الملاحظة المسجلة إلى صورة مجهرية مشفوعة بتفسير مجسم وتبيانة un schéma ملوّنة.

يعطي الاسم الممنوح لهذا العنصر الخلوي المكتشف، وهو اسم مزجي اندمج فيه شقان لفظيان، يعطي فكرة عن موقعه البيني. وما يلاحظ عنه هو ظهوره واختفاؤه حسب الحاجة، وكأنه يؤدي وظيفة تحت الطلب وعند الرّغبة، وهي وظيفة تتعلّق بالتعبئة والتفريغ. واعتبر كرصيف للتحميل المؤقت للحويصلات التي تساعد الخلية على التخلص من فضلاتها ونُفاياتها ومفرزاتها غير المرغوب فيها. وما أثار الانتباه هو أن الهيميفوزوم يظهر عندما تحتاجه الخلية، ويختفي عندما ينتفي وجه الحاجة إلى خدماته.

لم تكن الطريق الموصلة إلى هذا الاكتشاف ممهدة ومعبدة لو لم يتم التوصل إلى ابتكار تقنية مبتكرة حديثا أحدثت ثورة تكنولوجية في ملاحظة الخلية. فعلى خلاف التقنيات الكلاسيكية للمجهر الإلكتروني، التي تتطلب علاجات كيميائية مخرّبة لمشاهدة أجزاء الخلايا، فإن التقنية المستعملة تعتمد على التجميد الفوري للخلايا للمحافظة على أصالة مكوناتها. وأساس الفكرة هو تجميد الخلايا في درجات حرارة منخفضة جدا تصل حتى مستوى (ـ 170) درجة مئوية مما يمكّن من ملاحظة مكوناتها والتقاط صوّر لها بأبعادها الثلاثة.

تمتلك هذه العضية بنية غير مألوفة مظهريا، إذ تتألف من كيسين في شكل فقاعتين متجاورتين وملتحمين بحاجز لاصق. وعلى وجه التشبيه، وصفها العلماء برجل الثلج الذي يتشكل جسمه من كرتين مفصولتين بوشاح. ومن باب تقريب الفهم حول وظيفتها، استعانت الباحثة سهام إبراهيم، وهي أستاذة نائبة في كلية متخصصة في علم وظائف الأعضاء الجزيئي والفيزياء الحيوية بنمذجة تماثلية تفيد في المطابقة جزئيا، فقالت: (لما تكون الحويصلات بمثابة شاحنات الإمداد أو التفريغ داخل الخلية، فإن عضية الهيميفوزوم تمثل رصيفا للشحن حيث تتجمع الحويصلات لنقل بضائعها من مكان إلى مكان آخر).

وتوسيعا، يرى العلماء أن وظيفة الهيميفوزوم معقّدة وتتمثّل في القيام بعدة أدوار تشمل فرز المخلفات الأيضية “الاستقلابية” للخلايا وإعادة تدويرها والتخلص منها. فهو منظف على درجة عالية من الامتياز. وبالنسبة للباحثة الرئيسة المذكورة قبل حين، فإنها تبذل جهدا للمحافظة على صحة الخلية ومقاومة ما يصيبها من وهن وخرم وأعطاب وصدوع. وتواصل نفس الباحثة تعليقها قائلة: (إنها البداية فقط… وبما أننا تأكدنا من وجود هذه العضيات، يبقى علينا أن نوجه أبحاثنا إلى سلوكها في الخلايا السليمة مع محاولة التعرف عما يحصل في حالة توقفها عن الاشتغال؟. وهذا يفتح أمامنا الطريق نحو التفكير في استراتيجيات جديدة لعلاج الأمراض الوراثية النّادرة وشديدة التّعقيد؟).

من الآن فصاعدا، سيجتهد العلماء الباحثون في مد جسور ارتباط قوية بين عضية الهيميفوزوم المكتشفة حديثا والأمراض الوراثية التي أتعبت الكثيرين، ونغّصت حياتهم، وأقلقت راحتهم. وسيعملون على متابعة سلوكها في مختلف أنواع الخلايا في طوري اشتغالها وسكونها. والمؤكد عليه هو أن الطب البشري قد فاز بمفتاح جديد في طريق البحث عن علاجات الأمراض المستعصية أو الوقاية منها. ويقر بعضهم أنه في حالة أمراض مثل الزهايمر والباركنسون والأمراض الوراثية المتعدّدة يصعب تجاوز دورها بسبب ارتباطها بالتسيير غير الصحي للخلايا أثناء قيامها بالتخلص من نفاياتها، واعتبارا لدورها في الترميم وفي تجديد الأنسجة.

حتى وإن كان هذا الاكتشاف حديثا، فإن اعتقاد العلماء يتجه صوب وجودها في عدة مناطق من جسم الخلية. وأما هدفهم الأسمى، فيتمثّل في معرفة دورها عند الأشخاص الأصحاء، والوقوف عما يحصل عندما تختل سلوكيا، وتتعطّل عن العمل؟.

يلاحق اكتشاف عضية الهيميفوزوم بعدة استفسارات كما يجري الحال مع كل اكتشاف علمي جديد. ومن بين الأسئلة الأولى المطروحة بإلحاح وتحتاج إلى أجوبة مقنعة ومريحة، تحضر أسئلة البداية التالية: هل هذه العضية شاملة، أي موجودة في كل خلايا بني البشر؟. وهل توجد في أنواع أخرى من الكائنات الحية؟. ويعني ذلك أن طريق البحث للإحاطة بمعلومات وفيرة عنها تشبع الفضول العلمي ما تزال طويلة وشاقة.

نستشف من هذا الاكتشاف ومن الاكتشافات التي سبقته التي يثري معلوماتنا عن مكوّنات الخلايا، نستشف أن الخطوات التي يخطوها العلم في العلوم التجريبية عامة لا يمكن أن تتحقّق إلا بالتقدم التكنولوجي الذي يعمل على تطوير وسائله وأدواته وتقنياته بشكل مستمر وفائق. فقد ارتقى علم الخلية متدرجا مع العدسات البدائية البسيطة ثم العدسات المركبة فالمجهر الضوئي الذي تبعه المجهر الإلكتروني ثم المجهر الكاسح. ورافق هذا التدرج في ابتكار وسائل الملاحظة تغيير التقنيات بعد كل مرحلة وأخرى.

لم يبق أمام كل الذين أنجزوا مؤلفات عن الخليّة الحيّة سوى إضافة هذه العضيّة إلى كتبهم لتحيينها. وتنسحب نفس التوصيّة على واضعي مناهج مبحث علوم الأحياء في كل مستويات التعليم حتى تكون مسايرة للمستجدات.

إرسال تعليق

0 تعليقات

About Us

IceFlex Template is a theme that is designed to give your website a more professional appearance. Templateiki Developers may use a variety of features that are meant to be user-friendly. To make it more pleasant, choose simple and beautiful themes.